أحاسيس توسل الخيال في تشخيص الواقع
قراءة عبد المجيد الدخيسي
بعد تجربته الطويلة، في الكتابة يسلك يوسف خليل السباعي منعرجا آخر للتعبير بحرية أكثر وبجرأة متميزة، وبلغة أكثر تشويقا وإثارة ومهيجة لفضول القارئ، ويتعلق الأمر بتجربة الكتابة في الرواية والقصة. فبعد الاستقبال الغير المنتظر، لروايته ناتاليا من طرف المتتبعين، قارئين ونقادا لهذا الجنس من الكتابة يتابع إبداعه، ويصدر كاتبنا هذا، مؤخرا عملا جديدا بعنوان جنون الحاكم وقصص أخرى.
من السهل على المتتبع لما يجري في الوطن العربي، أن يقف على القراءات المتعددة حول ما أصطلح عليه بـ الربيع العربي فسالت الأقلام لرصد الأسباب الكامنة التي أوجدت هذه الظرفية وأثمرت هذه المتغيرات، التي لم تكن أبدا يجول وقوعها في فكر أحد، خاصة بالسرعة التي حصلت، وفي بلدان كانت حصون منيعة أمام كل رأي حر وأمام كل إرادة تنشد التغيير.
صورة الإنسان البسيط
ولعل شيئا من هذا توفر ليوسف خليل السباعي الذي حاول في جنون الحاكم والذي هو عبارة عن كتيب يضم بين دفتيه قصصا قصيرة ينقل عبرها أحاسيس قوية ورغبة عارمة في تطوير واقع المرحلة التي أخذ فيها الوعي القومي ينتشر والفكر التحرري يتولد لدى طبقات المجتمع، التحرر من قيود الاستبداد والظلم في ظل تمسك حكام بكراسيهم لعقود طويلة وإحكام قبضتهم على السلطة والثروات وقمع كل صوت وإقبار كل محاولة للتغيير، بالإضافة إلى نقله تجارب إنسانية أخرى رصد من خلالها الواقع المزري للإنسان البسيط. نجده بدأها بتصوير سقوط نظام القذافي وبلور ذلك في أسلوب يختلف عن الأسلوب القصصي المعروف، والذي هو تتبع لحظات إنسانية حياتية شديدة الأهمية منتقاة، وتتوفر فيه الخصائص الفنية الإبداعية المحققة لجمالية تشبع عطش القارئ المحب لهذا اللون من الأدب..
لكن ما يحسب للكاتب هو قدرته على جمع تلك الصور الكامنة في الذهن حول شخصية القذافي المرتبطة بحركته وجلوسه ولباسه وكلامه وتصرفه، فينتقل بك من محطة لأخرى وكل واحدة منفصلة عن الأخرى يجمع بينها خيط رفيع يستوحيه القارئ نفسه ويستنبطه. كما عمد إلى نقل موقفه انطلاقا من اختياره للشخوص التي تنوعت أدوارها وأسماؤها ومواقفها حيث نجده بين الفينة يستعمل ضمير المتكلم الذي يحمل أكثر من دلالة. وهنا كان التركيز على الرمزية والحمولة اللغوية لبلوغ الهدف، نقل الواقع، تصوير شخصية القذافي كإنسان بلغ عنده الأنا وحب الذات إلى حالة مرضية كانت وراء انهيار إمبراطوريته.
كتابة لغوية
كما لم يفت الكاتب نقل صورة من حوله من المقربين كحراسه المميزين، وندمائه وكذا أبناء شعبه الناقمين الذين جثم على صدورهم لعقود، كمم أفواههم وأعدم أحرارهم وسلب أحلامهم. فكانت محاولة ذكية في نقل القارئ من فضاء إلى فضاء.
أما القصص الأخرى فتختلف عنده من حيث الحجم والموضوع ،فجاءت تنقل تجارب إنسانية، تجربة الحب وإكراهات الواقع، ومعاناة النفس وصراعها من أجل إشباع هذه الرغبة وهي تختلف عنده من شخص إلى شخص في حكاياته.فـوردة و شمس الضحى و الباب المفتوح و نظرة عشق و المومس ذات الفستان الأحمر كلها تعكس الواقع الذي نعيشه بكل تجلياته.
فـرحمة أم شمس الضحى تمثل المرأة المتمردة الشبقية التي تستغل أنوثتها حين تعيش اللحظات الحميمية خارج الإطار المشروع كرد فعل على واقعها دون الاعتبار لابنتها التي بدورها حاولت وقاومت لكنها تستسلم وتتحطم أحلامها ويتحطم كبرياؤها عند عتبة سليمان الذي هو ليس أحسن حالا منها، فهو الذي يعاني في صمت، مغلوب على أمره مكسور جناحه معتصر قلبه بألم الذكريات، ذكريات السجن وأحداث 84.
أما الباب المفتوح، فكان للكتابة اللغوية والرمزية حضور قوي يجعل القارئ يحلق بعيدا ليضع الأقصوصة في إطارها ويتوخى أبعادها الاجتماعية والفنية، و في أمطار يونيو أراد الكاتب أن يضع القارئ أمام لحظة أكثر إثارة حتى تنطلق فكرته من الخيال فتصيب الواقع لتجعل القارئ يقف عند فكرة أن صاحبنا ينقل ما يراه وما يعيشه ويعاينه.