Web Analytics
غير مصنف

الفصل السادس من رواية ” عيون المنفى ” لعبد الحميد البجوقي

 

الفصل السادس

الهــارب

يسكن سعيد قريبا من الجامعة في حي أكدال، وذلك ما جعل من بيته الصغير محجا دائما للزوار من الأصدقاء. وبحثا عن التركيز والتهيؤ للامتحانات، انتقل سعيد إلى بيت أخته القريب من سكناه وانعزل عن العالم بين كتب القانون الجنائي والمسطرة الجنائية وغيرها من المراجع، كان خلال النهار يصعد إلى سطح العمارة للمراجعة وليلا يعتكف في الصالون بعد أن تنام أخته.

بعد أيام من العزلة وفي صباح يوم أحد، شعر سعيد بالإرهاق وبالحاجة إلى الترويح عن النفس، واختار أن يشاهد التلفزيون الذي انقطع عنه منذ وصوله إلى الرباط، كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء وأخت سعيد في زيارة لإحدى صديقاتها، وبمجرد أن أشعل التلفاز وقبل أن تظهر الصورة سمع سعيد صوت النشيد الوطني الذي غالبا ما يقترن سماعه في التلفاز باستقبال رسمي لرئيس دولة أوفي نهاية البث التلفزي، أو قبل وبعد خطاب الملك، انتظر سعيد قليلا حتى توضحت الصورة ففوجئ بأن الأمر يتعلق بخطاب ملكي عاجل، جلس مشدوها أمام التلفاز وبدأ الملك الحسن الثاني خطابه غير المنتظر بملامح يشعّ منها الغضب وبعصبية واضحة، وبعد ثوان فهم سعيد أن الأمر يتعلق بأحداث خطيرة وقعت في مراكش وتطوان والريف والبيضاء وحتى في بعض الأحياء الشعبية من الرباط العاصمة، وأن قوات الجيش تدخلت في تطوان والريف وأن الوضع خطير، أمسك سعيد أنفاسه وانتابه شعور بالهلع والخوف، وعادت به الذاكرة إلى جلسته مع الأصدقاء في مقهى ريجينا وإلى كلام عبد الكبير وحميد، واستمر مصعوقا أمام التلفاز وهو يسمع الملك الحسن الثاني يرفع صوته وهو يُهدد:

“عرفتوني وأنا أمير، فلا داعي لتعرفوني وأنا ملك” في إشارة لأبناء الشمال، ثم أردف: “لن أتسامح مع مجموعة من الأوباش وقطاع الطرق مهما كان سنهم، والقانون سيكون صارما لا يرحم”

تابع سعيد الخطاب الملكي إلى آخره وذاكرته تعود كل مرة إلى تطوان وإلى جلسة ريجينا مع الأصدقاء وكلمات كل واحد منهم وينتابه المزيد من الخوف.

بعد انتهاء الخطاب قفز سعيد بسرعة من الكنبة وتوجه مُسرعا إلى بيته القريب من بيت أخته بمحاذاة مسجد بدر بحي أكدال، والذي كان عبارة عن غرفة ونصف مطبخ ومرحاض، وجمع بعض أغراضه وعاد مسرعا إلى بيت أخته.

بعد أقل من ساعة بدت لسعيد كأنها الدهر، ودون أن يستطيع استعادة تركيزه في كتبه  وصلت أخته إلى البيت واستقبلها بلهفة سائلا:

” فاطمة هل شاهدت خطاب الملك؟ ” فأجابته:

“سمعت أن الملك قد ألقى خطابا، لكنني لم أشاهده، غريب ما المناسبة ؟” أخبرها  بسرعة بفحوى الخطاب وبخوفه من الوضع، لكنها طمأنته وقالت: ” استمر في تهيؤك لامتحاناتك فلا أعتقد أن الوضع بالخطورة التي تتصور، كما أنك غادرت تطوان قبل اندلاع الأحداث”

هدأ سعيد بعض الشيئ بعد سماع كلام أخته، لكنه عجز عن العودة إلى كتبه ولم يستطع النوم طوال الليل، ولم يغمض له جفن إلا بعد خروج أخته متوجهة لعملها  بوزارة التجهيزعلى الساعة السابعة والنصف صباحا.

بعد ساعتين أو أكثر بقليل، سمع سعيد باب المنزل يُفتح ودخلت أخته مُسرعة ومرتبكة وبادرته:

” سعيد، انهض، انهض بسرعة، البوليس يبحثون عنك في تطوان، لقد اقتحموا منزل الوالدة ويعرفون أنك في الرباط ، انهض وخذ بعض الملابس والأغراض وابحث لك عن مكان آمن حتى نعرف ماذا في الأمر؟”

لم تنتظر فاطمة جواب أخيها  وناولته 500 درهم وانصرفت مسرعة وهي تُردد:

“يجب أن أعود بسرعة لعملي لأنني، من باب الاحتياط،  لم أخبر الكاتبة بخروجي” وتعني الاحتياط من أن تكون متابعة من الشرطة التي كانت تبحث عن مكان سعيد.

غادرت فاطمة بيتها بسرعة فائقة، وأخد سعيد بعض الأغراض والنقود وخرج مسرعا ينزل درج العمارة، وقبل أن يصل إلى الطابق السفلي التقى برجلين بهندام رسمي ونظارتين سوداوين، أوقفاه بنبرة تنم عن صرامة السلطة وسألاه إن كان يسكن في العمارة وإن كان يعرف سعيدا وفي أي طابق يوجد بيت أخته. بسرعة فهم سعيد أن الرجلين من الشرطة ويبحثان عنه، ورغم هول الصدمة والرعب الذي اعتراه، ضبط سعيد أعصابه وأجابهم بهدوء:

” آه سعيد الطالب في كلية الحقوق؟ “واسترسل: “يقيم أحيانا مع أخته في الطابق الرابع على اليمين”

انتبه سعيد إلى أن الشرطيين لايعرفان ملامحه جيدا، ولم يلاحظ عليهما علامات الريبة، وبسرعة انطلق الرجلان مُسرعين نحو الطابق الرابع.

تنفس سعيد الصعداء وشعر بركبتيه فارغتين ترتجفان، لكنه قاوم وانطلق مسرعا نحو الخارج لا ينظر وراءه، ومر بجانب حانوت الشلح احماد (أحمد)  وكان واقفا في باب دكانه، ناوله احماد علبة سجائر من نوع أولمبيك الزرقاء وأومأ إليه قائلا: ” الله يحفظك” وهو يمتنع عن أخد ثمن السجائر، ثم أشار إليه بيديه، وقال له بصوت خافت:

“لاتتأخر، أسرع، الأفاعي (تُستعمل كلمة الأفاعي للحديث عن الشرطة) تبحث عنك” فهمه سعيد وشكره وانطلق مُهرولا في زنقة ملوية متجها نحو ساحة مسجد بدر وبعدها نحو أول حافلة متجهة إلى حي اليوسفية، وبعد أقل من ساعة كان سعيد قد وصل إلى حي اليوسفية الشعبي، وبدأ يبحث عن عبد الرزاق، رفيقه في كلية الحقوق، والذي كان يسكن في حي الصفيح المجاور لليوسفية.

استقبل عبد الرزاق سعيدا وآثار المفاجأة بادية على وجهه المستدير وقامته الطويلة ونحافته المُفرطة، لكنه رحب بقدوم سعيد رغم علامات الضيق والرغبة الملحة في معرفة سبب زيارة صديقه، ولم يتأخر عبد الرزاق في سؤال سعيد: “ماذا تفعل مع الفقراء في هذا الحي؟ “

أجاب سعيد صديقه عبد الرزاق: “عدت إلى أصولي”، ثم  أخبره بالموضوع وبوضعه الحالي بعد ما عرفه الشمال من أحداث، وبأنه مبحوث عنه من لدن الشرطة السياسية.

ما إن عرف عبد الرزاق  سبب زيارة سعيد حتى طلب منه الانسحاب بسرعة من ساحة الحي والتوجه إلى البيت وهو يردد:

” مفارقات الزمن، المناضل صُباطة رفيق الشهيد المهدي بنبركة يعود اليوم للمغرب بعد 20 سنة من الاغتراب ونحن نتأهب للهروب، وربما للرحيل إلى من حيث أتى صُباطة” (صباطة مناضل من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية استفاد من العفو الملكي وتزامنت عودته إلى المغرب بعد 20 سنة من الاغتراب مع انتفاضة 84).

كان عبد الرزاق مرتبكا وخائفا، كما أن ظروف عيشه في حي الصفيح صدمت سعيدا، وتفهم بسرعة أنه ضيف ثقيل ومُحرج على أناس لايعرفون الغدر، لكنهم ضحايا غدر الزمن والنظام والهجرة من البادية، ولم يتأخر سعيد في الاعتذار لعبد الرزاق مبررا مجيئه فقط للحصول على عنوان صديق مشترك لهما يُقيم في مدينة سلا المجاورة للرباط.

لم يُلح عبدالرزاق  كثيرا على سعيد للمكوث معه وأعطاه عنوان صديقهما في مدينة سلا، ثم ودعه وعلامات الحزن بادية عليه وهو يعانقه بحرارة.

شكر سعيد عبد الرزاق ثم انصرف إلى محطة الحافلات للإنتقال إلى حي حسان ومنه إلى مدينة سلا القريبة من الرباط (يفصلها نهر أبي رقراق عن العاصمة الرباط).

  في ساعة متأخرة من الليل وصل سعيد إلى مدينة سلا ولم يجد الصديق الذي أعطاه عنوانه عبدالرزاق. متأثرا بظروف الهروب، انتابه الشك بأن صديقه عبدالرزق تعمد أن يُعطيه عنوانا خاطئا ولم يفكر في لومه وبدأ يبحث له عن أعذار في مثل هذه الظروف، وفجأة تذكر أن صديقا من تطوان يقطن بمدينة سلا ويعيش مع مجموعة من أصدقائه أغلبهم طلبة ينحدرون من تطوان ومن مرتيل. توجه  سعيد مسرعا إلى بيت مصطفى صديقه من تطوان وطرق الباب بحذر.  فتح الباب عبد المالك وبجانبه مصطفى وكلاهما من تطوان، وفهم من ترحيبهما أنهما لا يعلمان بما جرى من أحداث.

في الصالون، وجد سعيد المجموعة ملتمة على مائدة تتوسطها قنينة ويسكي وبعض الأكل وبعض الكؤوس. الجميع رحب بسعيد وأفسحوا له المجال للجلوس، وقدم له مصطفى كأسا من الويسكي شربه بنهم واشعل سيجارة وهو يستعد للجواب على أسئلتهم وعن سبب الزيارة في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لكنه فضل تأجيل ذلك إلى الصباح، واكتفى سعيد بادعاء أنه اضطر لزيارتهم بعد أن توقفت به الحافلة القادمة من تطوان في سلا جراء عطب ميكانيكي. رحب الجميع بقدومه وأفسح مصطفى سريره لسعيد لينام فيه وهو يكرر ترحيبه بصديقه.

قضى سعيد الليلة مُستيقظا يجول بذاكرته في ماض قريب وفي هول اللحظة وفي ما يخبئه له القدر، ولم يستسلم للنوم إلّا في الساعات الأولى من الفجر ليسمع حينها طرقا قويا على الباب، إنه ابراهيم أحد شركاء مصطفى في كراء المسكن يدعوه إلى الفطور.

بدت على ابراهيم علامات الارتباك وهو يدعو سعيدا بلطافة مبالغة للفطور، واستجاب بسرعة وسأله عن مصطفى، فأجابه ابراهيم منفعلا:

“هل تدري أن الشرطة تبحث عنك في تطوان وفي كل مكان؟”

نظر سعيد إلى ابراهيم بغضب وتوتر وقال: “نعم أعرف وهذا سبب مجيئي إلى هنا”

تلعثم ابراهيم قبل أن يرد على سعيد واستوى في جلسته مستفسرا بنوع من الاحتجاج

“ألا تدري أنك تُغامر بصديقك وبنا جميعا؟، الأحسن أن تغادر وأن تُسلم نفسك”

أجابه سعيد بنبرة منكسرة “آسف، ليس في نيتي أن أوذيكم، فقط أحاول الإفلات بجلدي، وربما أنت مُحق، فالأحسن أن أُسلم نفسي للشرطة”، وبعد لحظات من الصمت واصل سعيد: “بلغ أسفي واعتذاري لمصطفى ولكل الأصدقاء على اضطراري للاحتماء بكم هذه الليلة “.

حاول ابراهيم أن يُبرر كلامه وأن يشرح أسباب عتابه، لكنّ سعيدا لم يُعطه الفرصة وغادر مُسرعا نحو الغرفة يجمع أغراضه القليلة وأخد كتابا من مكتبة مصطفى، ثم انصرف مغادرا البيت لا يرد على نداءات إبراهيم متوجها إلى حيث لا يدري.

فضل سعيد العودة إلى الرباط على الأقدام خوفا من المفاجآت، وقبل أن يصل إلى محطة “القامرة” للحافلات، انتابه بعض الخوف وتوجس من أن تكون المحطة تحت رقابة الشرطة، ورغم تعبه الشديد، بعد ساعات طويلة من المشي، فضل الاستمرار في اتجاه طريق البيضاء وانتظار الحافلات المتجهة إلى الجنوب، على حافة الطريق، تفاديا لاعتقال محتمل في المحطة المعروفة باسم المعصرة والمجاورة للحي الشعبي يعقوب المنصور الذي عرف أحداثا مُشابهة لما جرى في تطوان وفي مراكش.

واصل طريقه لكيلومترات خارج المدينة، وكان من حظه أن سيارة خاصة توقفت وسأله سائقها إن كان متوجها إلى الدار البيضاء، فكر سعيد لثوان وأجابه بحذر عن الثمن ظنا منه أنها سيارة أجرة بدون رخصة “سراق البلايص” ، ابتسم السائق وأجاب سعيدا:

“لا، كل ما في الأمر أنني رأيت كتابا في يدك وخمّنت أنك طالب، فأردت مساعدتك”. تردد سعيد بعض الشيء ثم ركب إلى جانب السائق مرددا شكره وامتنانه ومُدّعيا أنه طالب في كلية الطب بالبيضاء، وانطلق السائق بسرعة يحكي عن الوضع السياسي والتوتر الذي يعرفه المغرب والمخاطر التي تُهدد المغاربة جراء الغزو الشيوعي، وطبعا وافقه  سعيد على كلامه واستنكر ما يجري مؤكدا له أن المغرب محظوظ بملك شجاع ضامن للاستقرار. ارتاح الرجل لكلام سعيد وسأله عن المكان الذي يريد أن ينزل فيه، فأجابه سعيد شاكرا ومفضلا أن يتركه في أقرب نقطة لحي سيدي معروف الرابع، مدعيا أنه مُلتزم بموعد مع صديق في الحي المذكور.

نزل سعيد بحي سيدي معروف وانتابه شعور بالخوف، فبدأ يمشي تائها غير قادر على التركيز، وأحس بالتعب وبجوع شديد وبرغبة في البكاء، وعادت به الذاكرة إلى آخر اعتقال تعرض له في السنة الماضية لما كان مُشرفا على الإضراب في كلية الحقوق احتجاجا على الاصلاح الجامعي، وتذكر الضرب المُبرّح الذي تعرض له في مخفر الشرطة فأحس برعشة تهز مفاصله، وتوقف للحظات وكأنه يسترجع قواه، ثم اتجه مُسرعا نحو أول دكان واشترى خبزا وعلبة سمك، وطلب من الحانوتي أن يضع له السمك المصبر في الخبزة “فلوتة”، وأخد قنينة كوكاكولا من الحجم المتوسط وغادر مسرعا إلى ساحة “بين المدن” المجاورة لحي سيدي معروف الرابع وجلس يلتهم بنهم الخبزة دون أن يفارقه سؤال: “والآن إلى أين يا سعيد؟”

الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساء، والليل يتهيأ لإسدال ظلامه على المدينة، وسعيد يفكر في طرق باب صديقه محسن مستحضرا طهي أمه الحاجة زينب وطيبوبتها وأخته سمية، لم يتردد كثيرا وتوجه إلى بيت محسن الكائن في حي سيدي معروف من جهته المجاورة لسوق القريعة الشعبي، وكان حظه ان وجد صديقه كعادته في زاوية الزقاق، بلباسه المثير وبذلته العسكرية التي اقتناها من دكاكين الخردة  بسوق القريعة، يجالس بعض الأصدقاء من الحي . لمحه محسن من بعيد وصاح: ” سعيد، جبيلو، ماذا تفعل هنا أيها المشاغب”

فرح سعيد ولم يرد على صديقه كعادته محتجا على تسمية “جبيلو”، وعانق سعيد صديقه محسن بحرارة سائلا إياه عن أمه الحاجة زينب وأبيه الحاج محمد وعن أحوال الحي، بينما صديقه يُرحب بقدومه ويدعوه إلى البيت.

رافق سعيد صديقه محسنا منشرح الصدر يشكر قدره بلقاء صديقه ويفكر في ما يمكن أن يخبره به عن حالته.

في البيت وفي الغرفة السفلية إلى جانب الكراج (مرآب السيارة) بدأ محسن يسأل سعيدا عن الرباط والدراسة وعن الأهل والغرسة في مرتيل، ويسترجع معه ذكريات الطفولة في الحي أثناء متابعة سعيد لدراسته بالبيضاء وفي مرتيل أثناء العطل الصيفية، وفجأة سأل محسن سعيدا بلهجة لا تخلو من الجدية: ” قل لي سعيد، هل ما زلت مشاغبا وتحلم بالثورة؟ وتابع قبل أن يُجيبه سعيد: “بالمناسبة، حصلت بعض الأحداث هذه الأيام، ويقال إنها كانت خطيرة في تطوان”، ومن جديد لم يُمهل محسن صديقه واسترسل: ” لو لم تكن خطيرة لما ألقى الملك خطابه قبل البارحة، وهو غاضب، وسماكم بالأوباش”. بعد لحظات من الصمت أجاب سعيد صديقه ببعض الارتباك وهو يرمقه بنظرة فاحصة: “نعم هذا ما سمعت”، ضحك محسن واسترسل: “سعيد لعلك هارب؟ أنا أعرفك يا جبيلو الفوضوي”

انتفض سعيد دون شعور ووقف وهو ينظر إلى صديقه  بإمعان وقال له:

“محسن، أنت أكثر من صديقي، أنت أخي وسأصارحك بأمري، ولك أن تساعدني أو أن تطلب مني المغادرة”، واسترسل سعيد غير مبال بذهول صديقه: “أنا متابع والشرطة تبحث عني في كل مكان ورفاقي أغلبهم اعتقل، وقد جئت إلى هنا لأنني لا أستطيع الذهاب إلى الأوطيل وأحتاج إلى وقت لأتدبر أمري لعلني أستطيع مغادرة المغرب نحو أوروبا “

استمر محسن جالسا ينظر إلي سعيد وعلامات الجدية بادية على وجهه، وظن سعيد للحظات أن صديقه سيطلب منه المغادرة في هذا الليل وفي مدينة كالبيضاء، وتمنى لو طلب منه فقط أن يبقى هذه الليلة، لكن محسنا قفز فجأة من مكانه وقال ضاحكا: “بعض الوقت فقط؟” ثم استرسل: “كل الوقت الذي تحتاج وأكثر، ولن ينقصك أي شيء، ولن تعرف الحاجة زينب ولا الوالد بالموضوع، سيبقى سرنا إلى الأبد أو سبب ذهابنا معا إلى السجن يا جبيلو الفوضوي”

ما إن أنهى محسن كلامه حتى سقط سعيد على السرير المجاور وشعر براحة وأمن ورغبة في النوم، ونظر إليه محسن وابتسم وهو يقول: “هيا بنا إلى القريعة لعلنا نجد العروبي الكراب (بائع الخمر) فنشتري منه قنينة من الخمر ونسهر هذه الليلة، ومولاها كبير”.

مر أسبوع بالكامل وسعيد في حي سيدي معروف. التقى بعبد الحق زميله في الدراسة في ثانوية الأزهر، ووجده حزينا على موت أبيه ومنشغلا بدوره الجديد كأب للأسرة، ومهموما بمصير العائلة وبالبنات وبكآبة أمه التي زارها سعيد بطلب من عبد الحق لتقديم العزاء في زوجها، ورغم أن سعيدا وعد عبد الحق بالعودة، إلا أنه فضّل أن لا يزيده هما على ما هو فيه.

بعد أيام ربط سعيد الاتصال بأخيه عبد الهادي وتوجه إلى مدينة آسفي دون أن يُخبر محسنا بذلك من باب الاحتياط . كان عبد الهادي قد رتب كل شيء واكترى باسم أحد أصدقائه بيتا في آسفي حيث مقر عمله، وكانت زوجته حينها حاملا، لكنه لم يخبرها بوجود سعيد في المدينة، وسرعان ما دبر عبدالهادي أمر خروج سعيد وهيأ كل الترتيبات مع صديقهما عبدالسلام البحار لينطلق، بعد أقل من أسبوعين، إلى البيضاء ثم طنجة وبعدها نحو تطوان.

وصل سعيد ليلة 28 مارس 1984  إلى مرتيل مندهشا وخائفا مذعورا، ووصل إلى غرسة (مزرعة) العائلة متخفيا برفقة أخيه عبد الهادي الذي كان ينتظره بطنجة.

كان حارس المزرعة نائما لما وصل سعيد برفقة أخيه، لكن نباح الكلاب أيقظه فخرج ينادي الكلبة لويسة التي ما إن اشتمت رائحة سعيد وعرفته حت صمتت وبدأت تُعبر عن فرحها، هدوء الكلبة طمأن الحارس فظن أنه نباح عابر على حيوان أو حركة غير عادية في المزرعة المجاورة ثم عاد لنومه. عاد عبد الهادي مسرعا إلى حيث اختبأ سعيد، بعد أن تأكد من عودة الحارس إلى سريره، وأوصله إلى مكان آمن بالمزرعة قضى به سعيد الليلة مستيقظا من فرط خوفه وهلعه، وكان يشعر بالألم وهو يستعد  لمغادرة كل شيء، مغادرة الوطن والأم والأحباب والعائلة والدراسة ومشاريع المستقبل والذهاب نحو المجهول، وبكى سعيد طوال الليل مُنتظرا الإشارة المتفق عليها مع الصديق عبدالسلام البحار للانطلاق إلى الشاطئ المقابل للمزرعة.

قبل الأذان بقليل، وصلت إشارة الانطلاق واستعد سعيد ثم توجه بحذر نحو الشاطئ، كان يلبس لباس البحارة وفوقه جلباب رمادي اشتراه له أخوه فؤاد في تاونات حين اصطحبه للعيش معه بعد تعيينه في قرية تاونات مديرا للإعدادية الجديدة. انطلق سعيد مسرعا، لا يلوي على شيء، حتى وصل إلى المكان المتفق عليه في الشاطئ ووجد عبدالسلام البحار في الانتظار، وبسرعة فائقة ركبا القارب، وكان اسمه بالمناسبة  “الحرية”، وانطلقا في اتجاه الضفة الأخرى وأمله أن يعانق الأمان والحرية.

انطلق القارب الصغير يشق البحر الهادئ، وأشعة الشمس الأولى تطل من أفق بعيد وتنتشر على سطح ماء أزرق، في صمت مهيب لا يكسره سوى هدير أمواج خفيفة وصوت المحرك الصغير، وعاد سعيد يراجع صور حياة قصيرة يتركها الآن وراءه مُحملة بذكريات صاخبة في مرتيل مسقط رأسه وانتقاله إلى تطوان مع العائلة بعد موت أبيه وعمره لا يتجاوز 6 سنوات، وبعدها في البيضاء مرافقا لأخيه فؤاد الذي كان يعمل أستاذا بالمدينة ثم متنقلا معه إلى قرية تاونات النائية والمجاورة لمدينة فاس. تذكر انتقاله إلى البيضاء لاستكمال دراسته في ثانوية الأزهر المُعربة بعدما لم يعد يقوى على الحياة في تاونات، تذكر كيف تم استقطابه من طرف الشبيبة الاتحادية، ومشاركته في بعض الاضرابات التلاميذية، ثم انتقاله للعيش في الرباط مع أخته فاطمة حيث اجتاز امتحان البكالوريا ودخل الجامعة وهومناضل منخرط في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي، وكيف تشبع بمبادئ الاشتراكية وانخرط في نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بكلية الحقوق التي كان يتابع دراسته بها إلى أن أصبح نائبا للكاتب العام للنقابة الطلابية بكلية الحقوق، ورجع إلى ذكرياته في الحزب والنقابة واصطفافه في تيار يساري متطرف داخل الحزب، ومراجعته اللاحقة لبعض مواقفه، ولقائه بالزعيم عبدالرحيم بوعبيد الكاتب الأول للحزب بعد أن زاره في بيته رفقة مجموعة من شباب الحزب بمناسبة إطلاق سراحه من سجن ميسور وانبهاره به، رجعت به الذاكرة إلى نشاطه السياسي في تطوان وانخراطه في هيكلة تيار رفاق الشهداء بالمدينة، وانخراطه في جمعية الإحياء الثقافي، ثم مشاركته بمعية مناضلين من الحزب في تأسيس جمعية آفاق للثقافة، وكيف كان يعيش ملاحقة الشرطة السياسية لخطواته ومتابعتها له إلى أن تفجرت انتفاضة 84 في يناير فاضطر إلى ما هو مُقدم عليه خوفا من الاعتقال والتعذيب. مرت صور كثيرة بمخيلة سعيد وهو في جلبابه الرمادي لا يتحرك من مكانه، يُشعل السيجارة تلو الأخرى ويسترق النظر إلى صديقه البحار الذي كان يتظاهر بتصفيف شباك الصيد والاستعداد لنصبها وتنظيف بعض المعدات.

لم تستغرق الرحلة أكثر من ساعتين بدت لسعيد أطول من الدهر كله، لم يتبادل سعيد الحديث مع صديقه ومنقذه، كانا يتواصلان بالنظرات فقط، كان صديقه خائفا ومذعورا رغم مجهوده للتظاهر بالاطمئنان، وكان صوت محرك القارب ومنظر البحر الهادئ يُذكر سعيدا بوجوده وبنهاية ما لا يعرفها، ربما نهاية محاولته للهروب باعتقاله هو والمسكين الذي تطوع لمساعدته، وعاد سعيد يتخيل صور زوجة البحار التي تركها وراءه، وابنته الصغيرة نجاة، والصغيرعبدالحكيم الذي لم يتجاوز سنته الأولى، وانتاب سعيدا رعب شديد، ثم عاد بعد لحظات يُطمئن نفسه بالوصول إلى الضفة الأخرى والنجاة بجلده، ويبتسم بفرح ممزوج بألم نهاية من نوع آخر، نهاية حياة وبداية حياة جديدة من الصفر، من لاشيء إلى المجهول، وتنهد دون أن يتكلم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى