دفعتني قطرات المطر الخفيفة التي تساقطت في يوم صيفي إلى الاختباء في فندق ومطعم رياض بلانكو لصاحبته ماريبيل بفضاء من أفضية مدينة تطوان العتيقة. كنت في نفس الوقت أرغب في اكتشاف هذا الفندق الذي ابتاعته ما ريبيل كدار عتيقة من عائلة تطوانية معروفة، وقامت بترميمه وإصلاحه.. .ذاك ما سمعته من صديق قريب إلى قلبي.
طرقت الباب التقليدي المكتوب في واجهته عبارة ( مفتوح..) … ففتح من لدن مستخدم مغربي رحب بي… تبعته ما ريبيل التي رحبت بي هي الأخرى ملقية بود ورقة التحية، بادلتها نفسها بالإسبانية ( أولا) قدمت لها نفسي باعتباري كاتبا… راقها الأمر، وقالت بالعربية: “تشرفنا بمعرفتك” والابتسامة لاتفارق ملامحها.. ثم سألت: “ماذا تكتب؟” قلت: “أكتب روايات…” قالت: “هذا شيء جميل..أنا أيضا أحب قراءة الروايات، لكن بالإسبانية فقط… بالأمس ودعنا إدمون عمران المليح…راقه المكوث معنا هنا في الرياض، وأهداني رواية له… “.
خلال ذلك دعاني المستخدم لاختيار المكان الذي سأشعر فيه بالراحة، اخترت الرياض…كانت به نافورة ماء ومزهريات وموائد حديدية سوداء مكسوة بزليج مربع صغير ذي اللونين الأبيض والوردي مظللة بشمسية…جلست على كرسي لا يمكن إلا أن يشعرك بالراحة عكس كراسي بعض المقاهي التي تحس وأنت جالس عليها كأن أفعى لدغتك توا…طلبت جعة…في تلك اللحظة بدأت أحدق في زوايا الرياض…كان الضوء خافتا… والهدوء يعم الفندق…فقط هسيس كلام لاتكاد تعرف معناه…وفحواه…
أمامي داخل زاوية كان يوجد خمسة نساء إسبانيات معهم ثلاث رجال، واحد مغربي على ما أعتقد يحتسون مشروبات روحية ويتكلمون في أشياء أجهل مصدرها… بعد لحظة خرجت سيدة إسبانية للرياض لترد على مكالمة هاتفية… بقيت تتكلم لمدة طويلة دون أن تحس بي… هل أنا موجود أم لا… ظللت لمدة جالسا وحيدا… خطرت لي فكرة الشروع في كتابة رواية حب في زمن قلت لم يعد فيه للحب قيمة… تذكرت قصص الحب التي كتبها يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ … التي قرأتها وأنا في سن المراهقة بطريقة تلقائية… لكنني عدلت عن الفكرة، قلت في نفسي: “كم أتمنى أن أقلد طريقة غابرييل غارسيا ماركيز في كتابة روايته الشهير ” الحب في زمن الكوليرا”، التي حولت إلى فيلم سينمائي… والتي قرأتها أكثر من مرة… ترك غابرييل في هذه الرواية عصارة فنه وخلاصة تجربته مع الحياة والمرأة وغرائب أسرار النفس البشرية مع الحب…
لكنني قلت سأصبح لا محالة محط انتقادات كبرى… ولهذا السبب، عدلت عن فكرة كتابة رواية عن الحب الذي لم يعد أحد يعطيه مقامه في هذا الزمن القاتم…
تذكرت صديقي القريب إلى قلبي…لربما سيقول أحد منكم أي صديق، وأية صداقة تتكلم عنها في زمن لم يعد للصداقة معنى… في زمن الانتهازية والحرب والقتل والدمار والطغيان… قلت: “بلى..الصداقة هي الشيء الثمين الذي لا يمكن أن يندثر كقيمة إنسانية على الإطلاق مثلها في ذلك مثل الكتاب الذي سيبقى وسيستمر رغم منافسة التكنولوجيا ووسائل الإنترنت… تذكرت أن صديقي كتب رواية حب، لكنه لم يراجعها، تركها حتى يحين الوقت لمراجعتها ونشرها.
في غضون ذلك، دخل صديقي، هل أقدمه لكم، إنه لطيف وظريف، بل مسالم.. اسمه عادل كان يرتدي سروالا وجاكتة جينز أزرق، كان يشبه فرانكونيرو… اتخذ كرسيا أمامي، لم يطلب جعة… فقط براد شاي، كان يشعر بالبرد رغم أننا في الصيف… قال:” لقد ضربت موعدا هنا مع فتاتين”، قلت: “هل أعرفهما…” قال: “أجل، نعمة وسعاد…”. حالما نطق اسميهما دخلتا إلى الرياض واتخذتا مكانهما على المائدة… توقف المطر الخفيف في الخارج… حل الليل، نظرت إلى نعمة، ضحكت… كانت ترتدي قميصا أحمر، تحب الزجل، وتغني من حين لآخر، تحب أم كلثوم كم غنت وغنت، كنت أقول لها:” صوتك جميل، لماذا لا توظفينه في الغناء وتتقدمي لبرنامج” ستار أكاديمي”… كانت تضحك باستمرار… كانت تخاف من الفشل… لكنني كنت أشجعها دون كلل… كنت من حين لآخر أنظر إلى ماريبيل سيدة سمراء أندلسية يزيدها لون قميصها الأسود وسروالها الأخضر حينذاك جمالا وإشراقا… لم تكن الابتسامة تفارق ملامحها رغم جدية الحديث الذي كان دائرا داخل الزاوية التي تجمعها بالإسبان الآخرين والمغربي… كنت أحس بحرارة صاعدة من داخلي كالبخار…لازالت نعمة تضحك، ثم تتبادل حديثا هامسا مع عادل… نظرت باتجاه سعاد… سألتها: “هل هناك عمل سينمائي جديد تشتغلين فيه الآن؟” لم تنبس ببنت شفة، اكتفت بالقول:” لاشيء يا عزيزي”.
سعاد ممثلة جميلة، لكن وجودها في تطوان لن يساعدها على الحصول على أدوار في السينما… يجب أن تسافر إلى الدار البيضاء أو الرباط، وهناك قد تحقق طموحاتها الفنية… ورغم أنها اشتغلت مع مخرجين كبار وحصلت على جائزة أحسن ممثلة، إلا أن ذلك لم يساعدها، ف”الوسط الفني عندنا، تقول، لا يمشي إلا بالصحبة أو التنازل عن … “، قلت: “ليس قاعدة، وإنما استثناء..”..هزت كتفها اليمنى دون أن تنبس ببنت شفة.
طلبت من نعمة أن تسمعنا قطعة غنائية لأم كلثوم… غنت… ثم غنت وسكتت… كان القمر بدرا ليلتها… أحسست بحرارة تسري في دواخلي… طلبت نعمة براد شاي، تبعتها سعاد… تريد نفس الشيء… تذكرت نعمة أيام الحي الجامعي بالرباط، قالت:” أتذكر أول مرة أدخل فيها إلى غرفة الحي، فوجئت بطالبة محتجبة، سدت كل النوافذ، وأطفأت النور، لم أعرف مع من سأكون في الغرفة… وفي سرير جانبي توجد طالبة أخرى، تقبلت الأمر، ونمت… فجأة قمت على صوت موسيقى ورقص، كانت الطالبة قد مشطت شعرها وضعت ماكياجا على محياها ، ثم شرعت في الرقص… وبعد برهة… خرجت دون أن أعرف أين اتجهت… في الصباح، سألتها عن جنون البارحة، جاوبتني بكل صدق: ” إنني أقضي الليل سهرانة مع أغنياء.. يفرشون لي الأرض بالمال الذي يلتصق بجسدي، ثم يقضون مني وطرهم، ويمضون…). سألتهاعن كيفية خروجها من الحي دون خوف من الحرس. قالت: “أرش عليهم… وزد من عندك… فتفتح الباب بيسر”… حكى لي صديقي، ضاحكا، أن بعض الفتيات داخل هذه النوادي كن يطلين أجسادهن باللصاق حتى يتمكن خلال رقصهن وسقوطهن على الأرض الطافحة بالمال من الظفر بالغنيمة… أمر واحد استوقف نعمة، لم تنساه، هو حب الطالبة لطالب أسمر جميل، كانت تجري إلى جناح الطلبة الذكور لتراه فقط، من غير أن تتمكن من الكلام معه، كانت تحبه بشكل جنوني دون أن يبادلها نفس الحب، لأن سيرتها على كل لسان. قالت نعمة: “كان هذا الحب هو النور الأوحد في حياتها… ظل معها في أعماقها لمدة طويلة.
دفع عادل ثمن ما شربناه… خرجنا من الرياض… دلفنا إلى الصالون… كان هناك زجال مغربي، أعرفه… سبق لي أن قرأت نصوصه مرفوقا بشخص لم أعرفه… وفي مائدة على اليسار إسبان يتناولون طعام العشاء…
سمعت صوت ماريبيل كانت تنادي علي، قدمت لها الممثلة سعاد… سعدت بذلك، قالت: “معنا هنا ممثل مراكشي..”… تعرفنا عليه… تركت سعاد تتكلم معه… وعدها بشيء ما… لم يكن يهمني الأمر… سمعت أنه قال إنه يعرف الممثلة “منال الصديقي”… يشاهد لها مسلسل ” ثورية” من بطولتها على القناة الأولى.
ودعت ماريبيل، ودعها رفاقي، على أمل العودة مرة أخرى إلى رياض بلانكو حيث الهدوء.. الطعام… لا تلفاز…لا شقيقة…فقط الكلام… الكلام… صوت الماء… وأثر التاريخ… والذاكرة…
عند الخروج، قالت نعمةمستفهمة: هل شاهدت الغرف في الجهة الفوقية؟ قلت: لا. قالت: كل غرفة باسم امرأة…بلقيس، ليلى، فاطمة، شهرزاد، عائشة، مريم… دهشت… ظللت صامتا…
كانت نعمة على حق حين قالت: “كنا حقا في عالم آخر…ونزلنا…” .
أتذكر فقط خطواتنا المرسومة على زليج الدرب العتيق… خطواتنا السريعة في الليل… وصوت ماريبيل ينادي: تعالوا أحبائي، أنا في انتظاركم.
يوسف خليل السباعي