Web Analytics
ثقافة وفنون

جانكو : قصة قصيرة للكاتب يوسف خليل السباعي

خالد وحيد – مساءا- في بيته.

في غرفة النوم…

جدران الغرفة مصبوغة باللون الأزرق.

الغرفة محاطة بصور جميلة وبهية استجلبها من متحف  الآثار القديمة بخيريس، خزانة خاصة بالملابس وأخرى بالكتب، تلفاز وديفيدي ياباني صغير الحجم، لكنه بالغ الجودة.

يشعر بمغص في معدته…

يحتسي ” شويبس طونيك”، ويرتاح قليلا.

يشعل التلفاز…

يشعل الديفيدي…

ويتفرج على فيلم “جانكو متحرر” Django Unchained، من كتابة وإخراج كوينتن تارانتينو وبطولة جيمي فوكس وكريستوف والتز وليوناردو ديكابريو وصامويل ل. جاكسون وكيري واشنطن. راق خالد الفيلم بموسيقاه وأغانيه، التي ذكرته بأفلام فرانكو نيرو الجميلة، وعاش مع الفيلم، مع رمال صحاريه وكثبانه وتلاله، وأفراسه، وأراضيه الشاسعه، وأشجاره، وسمائه وغروبه،  وشخصياته ( أسياد إقطاعيين، وعبيد، وصائدي الجوائز)، ومن أعماق الجنوب في حقبة ما قبل الحرب الأهلية، تتابع الكاميرا سفر عبد محرر ( فوكس- جانكو) في رفقة صائد الجوائز ( والتز) في مهمة لإنقاذ زوجته ( واشنطن) من إقطاعي وحشي يمتلك شخصية كاريزمية ( ليوناردو ديكابريو). عندما انتهى الفيلم لم يبق في ذهن خالد سوى تلك الوحشية التي كان يعامل بها العبيد في أمريكا، الضرب، والجلد، والقتل، والحبس في صناديق كالقبور، وتمزيق أجسادهم من طرف الكلاب المتوحشة، والدماء التي تغلف وجه الشاشة.

في هذه البرهة، تحديدا، تذكر خالد ما وقع بحانة في برشلونة.

قال:

–      ” مع أنني لم أذهب أبدا إلى برشلونة، ولم أشاهد بعيني اللذين ستـأكلهما الديدان ما وقع في حانة ببرشلونة، ولا أعرف حتى ما هو إسم الحانة، أرهفت السمع لما حكاه لي حسن التقيت به في مقهى ” الزهراء” جالسا، في ليلة ممطرة، مع  صديقي جواد”.

قال حسن:

–      ” كنت مع صديقي فارس في حانة ببرشلونة، ليلا، نحتسي على الكونطوار البيرة، نتحادث، في قضايا الجنس والشراب، تارة نضجك مع فتيات إسبانيات جميلات، وتارة نضحك بصوت مرتفع غير آبهين بأحد، كان البرمان ينظر إلينا من دون أن يحرك ساكنا، وكانت الموسيقى هادئة، ولم يتسرب إلينا السأم تلك الليلة، كان فارس يضحك، فيكسر صوته سماء الحانة، ويقول بصوت مرتفع “اللعنة… اللعنة على أب العالم”،  ويكررها غير آبه بأحد، كنت أنا بدوري أضحك، بغتة، نظر إلينا إسباني طويل القامة، بشعر أشقر وعينان زرقاوان وأنف دقيق… نظر إلينا بتذمر، وهو سكران، وبفم ممتلئ، نطق: ” مورو دي مييردا”، وكررها بصوت مرتفع، فساد صمت طفيف داخل الحانة لم يكسره إلا صوت البارمان الذي طلب منه أن يهدئ نفسه وليس له دخل بالغرباء، فالبرمان يعرفه، ويعرفنا، كنا غالبا ما نتردد على حانته لتقويض سطوة الروتين والسأم، غير أنه لم يبالي بكلامه، واستمر في عناده، وكرر مرة أخرى ” مورو دي مييردا”، لم يتمالك فارس نفسه، وضربه بلكمة على وجهه، متخيلا نفسه ” جانكو”، فرد الإسباني بلكمة أخرى لمست أنف فارس، فسال الدم منه، الأمر الذي جعل فارس يتحول إلى وحش، وصرخ صرخة اهتزت لها جدران الحانة، وضربه برجله على مستوى بطنه، فتألم الإسباني وهجم عليه بقوة، وقبض عليه بكلتا يديه من وسطه، ورفعه إلى السماء ثم رماه على مائدة… في هذه البرهة خرج كل رواد الحانة إلى الشارع خوفا من إصابتهم في هذه الواقعة، لم يستطع فارس النهوض، وبقي يتألم، فاقتربت من الإسباني الذي كان ينظر إلي بقسوة وكراهية، وضربته برجلي اليمنى على مستوى بطنه، ورفسته أيضا وهو ساقط على الأرض، ثم ذهبت ناحية صديقي فارس وساعدته على النهوض بصعوبة، آنذاك، نهض الإسباني وهو يسترجع أنفاسه، لم ينظر إلي، اتجه صوب فارس كأنه يصفي حسابا شخصيا معه وضربه على مستوى صدره، فأحس بأن روحه تكاد تخرج من جسده، غير أنه في هنيهة تمالك نفسه، وراح ناحية الكونطوار، أمسك بكأس مملوء بالبيرة وضربه على وجهه، فتكسر الكأس الزجاجي، وانغرست شظاياه في أنف وأذن الإسباني الذي بدأ يصرخ بشكل غريب. في هذه البرهة، دخل رجال الشرطة، وقبضوا علي و على جانكو، وأخرجونا مصفدين، لنجدا أنفسنا في السجن، ننتظر حكم المحكمة”.

كان خالد يرهف السمع وينظر مبتسما إلى حسن وهو يحكي هذه القصة التي قد تصلح كسيناريو سينمائي. قصة جانكو في حانة ببرشلونة.

أردف حسن قائلا:

–      ” منذ تلك الليلة، لم ألتقي بجانكو المغربي، رموه في عنبر بعيد عني مع سجناء آخرين. أما أنا، فكنت أفكر ليل نهار في حكم المحكمة، كان بعض الإسبان يقولون لي: ” لن يكون حكم القاضي خفيفا، سيحكم عليك بخمس سنوات، وكنت أشعر بالخوف، وأهذي بالليل، ويهجرني النعاس، وأتذكر معركة الحانة، وأقول في سري: ماذا لو كان صديقي فارس يمتلك مسدسا شبيها بمسدس جانكو، لكان قتل ذلك الإسباني الأحمق، العنصري، وكان مصيرنا السجن مدى الحياة. كنت في أوقات، أريد أن أنسى قرار الحكم، لكن شبحه يطاردني، وتغلبت عليه بصداقتي مع روبيرطو الإيطالي، المحكوم بستة أشهر، كان ذلك يهون علي ويجعلني أفرح قليلا، كان روبيرطو قد سرق مصرفا للعملات بمسدس بلاستيكي، دخل على مستخدمة بالمصرف وهددها بذلك المسدس، ثم سرق المال، وهرب ليعتقله رجال الشرطة محاولا الهرب في طريقه إلى مدريد. كان يتاجر داخل السجن، بطريقة ذكية، ويشتري البيرة وألوانا من الأكل الشهي، ويدعوني إلى مائدته. كان ظريفا معي، جعلني أنسى عذابي. لكن بعد أيام، حكموا علي بثمانية أشهر، كان صاحب الحانة ظريفا، وبرغم أنه يعرف الإسباني الأحمق، العنصري، إلا أنه شهد لصالحنا، ولصالحي أنا بالذات. في السجن، تعرفت على خافيير سجين إسباني متوحد، لا يصاحب أحدا، امتدت صداقتنا على مدى سبعة أشهر، حكى لي قصة دخوله للسجن، لكنه احتفظ بسبب حرقه لزوجته وابنته، كان حزينا، لكنه كان قوي البنية، غير أن صوته كان أنثويا. طلب مني أن نأخذ دشا سويا، فقبلت، لم يكن يخجل، ينزع عنه كل ملابسه أمامي، أما أنا فكنت خجلا… كنت أحيانا ألقي نظرة على وشمه الغريب، وشم “حية”، كان يضحك، ويسألني بابتسام: ” هل أعجبك الوشم؟”، فأقول: “نعم”، يجاوبني:” إنه عمل ل(فنان) إنكليزي”. قبل أن أخرج، كان يعرف أنه ليس لي مكان أروح له، قال لي: ” سأرسلك لتعمل مع صديق لي، يعمل حارسا في ناد ليلي ببرشلونة”. كان لطيفا معي. أعطاني عنوان النادي، وإسم صديقه أنطونيو. ودعت أصدقائي في السجن، كان ثمة مغاربة، جزائريون، صينيون، إسبان، إيطاليون…  كان روبيرطو قد فك سراحه، ودعت خافيير، وخرجت لأتنسم عبير الحرية”.

خالد يشرب كأس شاي أسود، ويرهف السمع إلى ما يحكيه حسن، الذي احتكر الكلام.

قال حسن: ” لم أفكر بتاتا عندما خرجت من السجن في فارس-جانكو المغربي. كان من الأفضل لي أن أنساه، فالسجن علمني أشياء كثيرة، وجعلني أعيد ترتيب حياتي من جديد، ولا أعود إلى أي تصرف وحشي. في الليل، ذهبت إلى النادي… سألت عن أنطونيو، جاء… أكلت، شربت، في الصباح، ذهبنا إلى منزله. منزل جميل، واسع… لكنني لا حظت أن صوت أنطونيو كان أنثويا، ذكرني بصوت خافير. بعد أن استفاق من النوم، قال لي لتشتغل معي،كان صريحا، قال لي: في الاتجار في المخدرات…”، ذهلت، واشتغلت معه أياما، كسبت مبلغا ماليا ضخما، غير أنني خفت، كان درس السجن قاسيا. في صباح باكر، لم أودع أنطونيو، تركته ناعسا في حضن صديقه الإسباني في السرير، وخرجت… لأجد نفسي في الباخرة المتوجهة إلى سبتة. كانت أمواج البحر هادئة، جعلتني أفكر بذكاء في بدء حياة جديدة. لكن، كيف، وأنا بلا عمل الآن. فكرت، وقلت في سري: أي عمل… أفضل من الاتجار في المخدرات”.

بعد أن انتهى من قصته، شعر خالد بالبرد، ودع حسن، وودع جواد. كانت وجهته البيت، أكل… ودخل إلى غرفة النوم. أشعل التلفاز، أشعل الديفيدي… وتفرج على المشهد ما قبل الأخير من فيلم “جانكو متحرر”، مشهد صائد الجوائز (والتز)، وهو يقتل بذكاء الإقطاعي الوحشي الذي يمتلك شخصية كاريزمية ( ليوناردو ديكابريو).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى